Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf

من التأميم إلى العدوان الثلاثى

عشت معركة التأميم

ـ 4 ـ

من التأميم إلى العدوان الثلاثى

ـ 6 ـ

تأميم شركة قناة السويس

الثورة الثانية

تمثل قناة السويس صفحة من صفحات النضال المصرى نحو التحرر ، وإنهاء التبعية بقدر ما مثلت أحد الأشكال البارزة للتدخل الأجنبى فى مصر ، ومنذ حفر قناة السويس ، والشركة الفرنسية التى حصلت على امتيازها تتحكم فيها وتتخذ الشركة من باريس مقرا لها وقد أصبحت بريطانيا شريكة لفرنسا فى السيطرة على القناة بعد أن اشترت نصيب مصر فى أسهم القناة ، ولم تكن مصر تحصل من أرباح القناة إلا على نسبة ضئيلة.

فعلى سبيل المثال وصل دخل القناة 35مليون دولار فى عام1955 ، كان نصيب مصر منها مليون جنيه فقط ، وكان موعد انتهاء امتياز الشركة الفرنسية يحين فى عام 1968 لتعود ملكيتها بعد هذا التاريخ إلى مصر ، ولقد استوعبت قيادة الثورة هذه الحقائق منذ البداية ، وبدأت بالفعل فى العمل على تعديلها ابتداء من عام 1953 لترتيب أوضاع ما بعد 1968 ، وكان ذلك من خلال مجموعة من الدراسات طلبت القيادة إجراءها حول النقاط التالية :

موقف القوة البشرية فيما يتعلق بمستوى الإدارة أو العناصر الفنية المطلوبة لانتظام العمل والكفاءات البديلة ونوعياتها .

الجوانب القانونية التى تحكم وضع القناة والشركة التى تديرها من واقع قواعد القانون الدولى البحرى التى تنظم التعاون مع الموقف وعلاقته بالسيادة المصرية .

المشروعات المقترحة لتطوير قناة السويس وتحسينها .

احتمالات التدخل العسكرى البريطانى فى القناة فى حالة فشل مفاوضات الجلاء فى ظل وجود القوة العسكرية البريطانية فى منطقة القناة .

ومن جانب آخر كانت مفاوضات الجلاء واحتمالات إنهاء الوجود العسكرى البريطانى مصدر قلق وانزعاج شديدين لشركة قناة السويس ، ومع بداية 1953 فكرت كل من لندن وواشنطن فى إنشاء هيئة للمنتفعين بالقناة لتكون بديلا للقاعدة البريطانية فى حماية القناة ، ونشط الأعضاء البريطانيون فى مجلس إدارة الشركة فى تجسيد الأخطار المحتملة بعد الجلاء على القناة ، وتكون ما عرف باسم " جماعة السويس " من أعضاء مجلس العموم البريطانى للدفاع عن الشركة آخذين فى الاعتبار تجربة تأميم البترول الإيرانى ، وتخوفهم من استيلاء مصر على القناة وما قد يترتب على ذلك ـ من وجهة نظرهم ـ من أخطار على القناة .

وكان رئيس مجلس إدارة الشركة يردد تعبيرا يدرك تماما معناه لدى الغرب حيث يقول:

" إن القناة هى وريد الدورة الدموية للبترول فى العالم " ، وقد لقى هذا التعبير صدى كبيرا لدى المسئولين البريطانيين حتى أن إيدن كان يردده أيضا فى خطبه ذلك أن بريطانيا كانت من أكثر الدول انتفاعا بالقناة .

والملفت للنظر أنه رغم الأهمية الكبرى التى تحظى بها قناة السويس من كل المنتفعين بخدماتها فلم تضع الشركة المسئولة عنها أية خطط للتطوير أو تحسين الخدمة فى برنامجها .

ومن هنا فقد أدركت قيادة الثورة أن قناة السويس لا تمثل مرفقا اقتصاديا فقط بل إنها تمثل أيضا قضية ذات أبعاد سياسية وأمنية واستراتيجية إلى جانب البعد الإقتصادى، وأصدر الرئيس عبد الناصر قرارا فى مرحلة مبكرة، وفى أعقاب توقيع اتفاقية الجلاء مباشرة بتشكيل مجموعة عمل لوضع الدراسات اللازمة فى قناة السويس وفقا لما سبق تحديده، وكانت هذه المجموعة تضم كلا من على صبرى وسامى شرف وأمين أنور الشريف رئيس جهاز التعبئة العامة والإحصاء ، وكلفت بتجميع البيانات اللازمة والمعلومات الضرورية عن نشاط شركة قناة السويس فى كل الاتجاهات .

وفى 17نوفمبر1954 أشار عبد الناصر فى إحدى خطبه إلى الفترة المتبقية من عمر امتياز شركة قناة السويس ، وضرورة استثمارها كفترة تحضير لتأهيل المصريين لإدارة القناة بعد تسلمها من الشركة .

وفى فبراير1955 انضم للمجموعة السابقة كل من الدكتور مصطفى الحفناوى والدكتور حلمى بهجت بدوى ومحمد على الغتيت، وكان لعلى صبرى الذى رأس هذه المجموعة أحقية الاستعانة بأى من الخبراء الفنيين أو القانونيين وفقا لتقديره وتركز البحث أيضا على وضع القناة بعد سنة1968 .

وكان يجرى عرض ما يتم التوصل إليه من دراسات أو تقديرات بإستمرارعلى عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة وخاصة عبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادى وزكريا محى الدين .

قدمت المجموعة آخر دراستها فى عام 1955 وخلصت فى نهايتها لاقتراح يقضى بالإسراع فى وضع القناة تحت السيادة المصرية بالكامل دون أن تستخدم مصطلح " التأميم " ، وقد جرت مناقشة الموضوع مع أعضاء مجلس قيادة الثورة، وقد أبدى اللواء عبد الحكيم عامر فى جلسة خاصة مع عبد الناصر تحفظه على هذه الفكرة ، وكان يرى الاكتفاء فقط بزيادة الرسوم التى تحصل عليها مصر من عائد المرور فى القناة ، وأن الاستيلاء على الشركة لا يعد فى صالح مصر نظرا لوجود القوات البريطانية فى منطقة القناة وان مثل هذا القرار قد يدفعها للتدخل فى الأوضاع الداخلية المصرية وإحباط القرار المصرى ، وكانت تجربة مصدق بتأميم البترول الإيرانى ما زالت ماثلة فى الأذهان .

وعندما عرضت هذه الدراسة لم يكن مطلوبا وقتها اتخاذ قرار محدد وإنما كان الهدف هو مجرد عرض الموضوع بصفة خاصة على عبد الحكيم عامر باعتباره قائدا عاما للقوات المسلحة لاستطلاع رأيه فقط من ناحية المبدأ ، ووضعت الدراسة كمثيلاتها فى الخزنة .

ومن جانبها قامت شركة قناة السويس فى عام1954 بإيفاد وفد يمثلها برئاسة محام مصرى بارز هو سابا حبشى لإجراء اتصالات مع الحكومة المصرية حول فرص مد امتياز الشركة بعد عام 1968 ، والتقى الوفد بالسيد بزكريا محيى الدين ثم بالرئيس جمال عبد الناصر لكن لم يتلق ردا شافيا من أى منهما .

فى نفس الوقت وضع اهتمام قيادة الثورة بالتعرف على ما يجرى داخل شركة قناة السويس ، وكان مجلس إدارتها يضم ممثل أو أكثر للحكومة المصرية لم يكن له أى دور فعلى ، لكنها فى إطار التوجه الجديد حرصت الحكومة على تعيين ممثل لها داخل مجلس الإدارة وتم تكليفه بالتعرف على كل ممارسات الشركة من الداخل .

وفى مارس 1956 عندما كان وزير الخارجية البريطانى سلوين لويد يزور القاهرة تطرق الحديث إلى قناة السويس ، وأشار إلى أن بلاده تعتبرها جزءا من مجتمع البترول فى الشرق الأوسط؛ فرد عليه الرئيس جمال عبد الناصر أن الدول العربية تتقاضى 50% من أرباح البترول بينما تتقاضى مصر فقط 5% من أرباح القناة وأن المفروض أن تعامل مصر معاملة الدول المنتجة للبترول .

هكذا يتضح أن قناة السويس لم تكن غائبة عن التفكير السياسى لثورة يوليو ، بل كانت قيادتها مهيأة تماما لاتخاذ إجراء محدد سبق دراسته والتداول بشأنه بصورة موسعة، وكانت المشكلة فقط ترتبط باختيار التوقيت المناسب ، كما أن قوى الغرب وشركة قناة السويس كانت تمعن التفكير فى احتمالات هذه الخطوة وسعت بأساليب شتى للحصول على موقف محدد من الرئيس عبد الناصر بشأنها لكنه لم يشأ أن يقدم هذا الرد صراحة ، وجاء القرار الأمريكى بسحب المساهمة فى تمويل السد العالى ليحدد توقيت التحرك المصرى بمنتهى الدقة .

ففى التاسع عشر من يوليو1956 كنا فى طريق عودتنا من يوغوسلافيا ، وخلال رحلة العودة بالطائرة من بلغراد ـ ولم تكن رسالة أحمد حسين قد وصلت بعد، طلب الرئيس منى الاستماع لنشرة الأخبار من إذاعة القاهرة فوجدت أنها أخبار عادية فطلب الاستماع لمحطة إذاعة آل" BBC " فى لندن فإذا بها تعلن قرار الولايات المتحدة الأمريكية بسحب عرض المساهمة فى تمويل مشروع السد العالى ، وتضيف أن بريطانيا سوف تصدر بيانا مماثلا بعد قليل ، وقد صدر البيان البريطانى بالفعل بعد ذلك بساعتين .

كان مع الرئيس عبد الناصر على نفس الطائرة فى رحلة العودة رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو مصحوبا بوفد كان مقررا أن يقوم بزيارة رسمية للقاهرة لمدة ثلاثة أيام لاستكمال حواراته مع الرئيس بعد انتهاء الاجتماع الثلاثى فى بريونى .

سلمت الرئيس ورقة بالخبر فقرأها ثم ناولها لنهرو ، وكانت مكتوبة بالعربية فاستفسر عن مضمونها فأبلغه عبد الناصر ، ثم انتقل تاركا له فرصة للتفكير ـ وتحدث مع كل من السادة عبد اللطيف البغدادى ومحمود فوزى وعلى صبرى وهيكل ، وكان رأى عبد الناصر: "أن لدينا بدائل للرد عليهم ، ومصر ليست مفلسة كما يقول دالاس ويمكن بجهودها وبمعاونة أصدقائها أن تبنى السد العالى وسوف تبنيه ، ومع ذلك فليس من المصلحة إعلان رد فعل فورى . " .

بعد أن وصلنا للقاهرة تحدث الرئيسان نهرو وجمال عبد الناصر واتفقا على عقد جلسة المباحثات الأولى فى الصباح لمناقشة الموقف الجديد بعد أن يكون قد أخذ فرصته للتفكير والتشاور مع معاونيه ، ثم التفت إلى وقال: " بكرة تصحى بدرى وتجيب المجموعة اللى جهزت دراسات قناة السويس ، كل منهم على حدة ولا تستخدم التليفونات أو وسائل الاتصال العادية وتستنى منى تعليمات" .

كانت هذه المجموعة كما ذكرت تضم مصطفى الحفناوى وأمين أنور الشريف ومحمد على الغتيت وحلمى بهجت بدوى . وفى الصباح طلب الرئيس تجميع كل الدراسات التى سبق إعدادها على أن نجتمع مع على صبرى لوضع التوصيات التى يمكن بحثها إذا ما أجبرنا على اتخاذ إجراءات تتعلق بإدارة قناة السويس، ولم يطرح أيضا هذه المرة كلمة " تأميم " .

بدأنا مناقشاتنا ، وتحمس اثنان من الحاضرين هما مصطفى الحفناوى ومحمد على الغتيت لاتخاذ قرار لفرض السيطرة المصرية الكاملة على شركة قناة السويس . وتركنا على صبرى ليلحق باجتماع الرئيس جمال عبد الناصر ونهرو فى قاعة الاجتماعات الكبرى بمبنى مجلس الوزراء، ثم انتقل الرئيسان وحدهما إلى مكتب الرئيس جمال عبد الناصر، وعاد على صبرى بعد ساعة تقريبا ليقول لنا : " فيه كلام حول تأميم شركة قناة السويس ، الرئيس أثار الموضوع مع نهر، وإن لم يقله بصراحة بل أشار إلى نوع من أنواع فرض السيطرة المصرية على المرفق . وكان رد نهرو " أن الدول الصغيرة يجب أن تعطى المثل للدول الكبيرة حتى تمنعها من التمادى فى شئونها وتبرز قدرتها على الرد . . لكن هذا القرار يعنى الحرب . . فهل انتم مستعدون ؟ على العموم نحن تحت أمركم، واعتبرونا معكم فى أى معركة ستواجهها مصر ، وأنه يتوقع أن مصر مقدمة على ظروف صعبة وقاسية سوف تشغل القيادة، وأنه يفضل العودة إلى بلاده حتى يترك الوقت للقيادة المصرية لترتيب أمورها واتخاذ القرار الذى يكفل حقها وكرامتها مع تأكيده على استعداد بلاده لتقديم أى عون تطلبه مصر" . وسافر نهرو فعلا فى ذلك اليوم .

بعد توديع نهرو عاد الرئيس جمال عبدالناصر ليعقد اجتماعا فى مبنى مجلس لوزراء حضره السادة عبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادى وجمال سالم وزكريامحى الدين وحسين الشافعى وصلاح سالم وعلى صبرى ، وطرح الرئيس فى هذا الاجتماع لأول مرة فكرة تأميم قناة السويس، ولقى الاقتراح موافقة جماعية من كل الحاضرين، وقد طرح فى هذا الاجتماع أيضا ترشيح الرئيس جمال عبد الناصر للمهندس صدقى سليمان أو المهندس محمود يونس لتولى تنفيذ هذه المهمة .

بعدها طلبنى وقال : " ها نؤمم القناة " . . ووافق على ضم المستشار محمد فهمى السيد مستشار الرئيس للشئون القانونية ومساعده المستشار عمر الشريف لفريق العمل، ووقال :" تقعدوا تتكلموا فى الموضوع، وتقول لهم بصراحة اللى حايطلع كلمة برة سيكون لنا معه حساب جامد قوى وعسير ، وتجهز القرار وتحفظه فى خزنتك لغاية لما أعطيك أوامر جديدة " .

صعدت إلى مكتبى ودعوت محمد فهمى السيد للانضمام لمداولاتنا، وتناقشنا فى صيغة القرار، وقمت بكتابه الصيغة التى انتهينا إليها بنفسى على الآلة الكاتبة، ثم توجهت لعرضها على الرئيس جمال عبد الناصر فقال لى : " طيب خليها عندك لغاية لما نتكلم فى الموضوع ، وأكد عليهم ما فيش حد يفتح هذا الموضوع مع أى مخلوق كأن لم يسمعوا ولم يروا . " .

عدت وأبلغتهم بالتعليمات ، ودار نقاش من جديد حول ما يجب اتخاذه من إجراءات بعد قرار التأميم ، وطلب المجتمعون الالتقاء مع الرئيس لمناقشة الموقف؛ فحدد لهم الساعة السابعة من مساء نفس اليوم على أن يحضروا فرادى ومتفرقين فى الفترة ما بين الساعة الخامسة والساعة السابعة حتى لا يلحظهم أحد .

وخلال الاجتماع مع الرئيس طرحوا الأسئلة التالية :

هل يتم الاستيلاء على شركة قناة السويس بصورة سلمية أو فى إطار تحرك عسكرى ؟ موقف المرشدين وغالبيتهم من الأجانب إنجليز وفرنسيين وألمان ويونانيين كما يوجد عدد محدود من المصريين .

ضرورة التأكد من احتمال وجود خطوط ربط بين إدارة الشركة وبين القيادة العسكرية البريطانية وقاعدتها فى القناة وطبيعة وسائل الربط .

فى ضوء احتمال وقوع عمليات تخريب أو انسحاب للمرشدين ، ما هى البدائل الممكنة لتوفير المرشدين مع المحافظة على أمن العملية ؟

وتعددت الأسئلة وتشعبت المناقشات فقمنا بتقسيم الفريق إلى ثلاثة مجموعات يتولى كل منها اقتراح البدائل المناسبة للإجابة على عدد من الأسئلة وواصلنا عملنا طوال فترة الليل ، واقترح اسما كوديا للعملية هو ـ "فرديناند دى ليسيبس " ـ وركزت المجموعة عملها على وضع الخطط التفصيلية فى المجالات السياسية والاقتصادية والقانونية وخطة التحرك شاملة التوقيتات وتوزيع المهام والمسئوليات لكل فرد أو جهاز ، وبناء على أوامر من الرئيس انضم للمجموعة عباس رضوان مدير مكتب عبد الحكيم عامر ليكون مسئولا عن المشاركة فى التخطيط والتنفيذ فيما يتعلق بالنواحى التى ستكلف بها القوات المسلحة وتجهيز الحملة ووسائل الاتصال المرتبطة بتنفيذ العملية .

وخلال المداولات المكثفة أثيرت مسألة جديدة حول ضرورة اختراق الشبكة اللاسلكية لشركة قناة السويس ، فقد كانت هذه الشبكة بعيدة المدى وعلى اتصال مباشر بمقر الشركة الرئيسى فى باريس وبعدد من العواصم الأوروبية ، وتتداول بعض رسائلها وفق شفرة خاصة بها ، وقد وجه عبد الناصر فى مرحلة التحضير إلى ضرورة التقاط جميع الرسائل والإشارات الصادرة عن هذه الشبكة وتجميعها ودراستها وتحليلها لمعرفة حقيقة ما ترسله إلى رئاستها أو إلى الأفرع الأخرى وما يصل إليها من احتياجات وتعليمات سواء من رئاستها أو أية جهة أخرى .

وهنا يجب أن نذكر تفاصيل أمورا تجسد قدرات وذكاء الإنسان المصرى ، فقد ساهم فى التقاط هذه الرسائل اللاسلكية المشفرة وغير المشفرة كل من جهاز المخابرات العامة والمباحث العامة، وتم تشكيل طاقم خاص من ضباط الجهازين كانوا يعملون ليل نهار فى مكتب صلاح الدسوقى أركان حرب وزارة الداخلية فى ذلك الوقت منهم عبد الفتاح رياض وآخرون، وكان يصاحبهم دبلوماسى من وزارة الخارجية المصرية متخصص فى شئون الشفرة والرمز ، وظل هذا الفريق يواصل عمله مستخدما ماكينات فك شفرة حديثة جدا بعضها لم يأت بالنتائج المرجوة ، فاستخدموا عقولهم فى محاولات لكسر هذه الشفرة، وتمكنوا من تحقيق نتائج باهرة بفضل من الله وعرق هؤلاء الضباط .

وفى الحقيقة فقد أفاد النجاح فى هذه العملية فى توفير كمية ضخمة من المعلومات المهمة أمكن الاستفادة بها فى الدراسات التى أعدت بعد إعلان التأميم ، وكان لها دورها فى تحقيق ثلاثة أرباع النجاح لعملية التأميم نفسها . فقد كانت البرقيات المتبادلة تتناول الأوضاع فى مصر بما فيها الموقف العسكرى ، وكان من بينها برقية مختصرة لا تتعدى السطرين أرسلت من رئاسة الشركة فى باريس إلى مركزها فى الإسماعيلية، وذلك عقب إعلان الرئيس جمال عبد الناصر قرار التأميم بساعات ، وكان مضمونها هو" أن يتم سحب جميع المرشدين الأجانب من العمل فى قناة السويس فى تاريخ معين"، وكان الهدف بالطبع هو تعطيل المرفق وإظهار الإدارة المصرية بأنها عاجزة عن تأمين انتظام المرور مما يستدعى تدخلا دوليا للمحافظة على انتظام المرفق .

وكانت تعليمات الرئيس جمال عبد الناصر فى ضوء ذلك ( كان ذلك بعد التأميم ) ، تقضى بأن يتم الاتصال الفورى بالدول الصديقة، وطلب مساعدتها بإيفاد مرشدين للعمل فى القناة ، وقد سارعت هذه الدول بالفعل ـ وكان فى مقدمتها اليونان وقبرص ـ بإيفاد الأعداد المطلوبة فى أقل من الأربع والعشرين ساعة من طلبهم ، بل إن بعض المرشدين الإنجليز والأمريكان رفضوا الانسحاب، وطلبوا التطوع لمواصلة عملهم بعد التأميم إلى جانب المرشدين اليونانيين الذين كانوا يعملون فى القناة فى السابق ، ولم تتعرض الملاحة لأى تعطيل( ، وكان هناك بالطبع عدد من المرشدين المصريين أيضا *.

نعود إلى سياق الأحداث ففى يوم 24يوليو1956 استدعى الرئيس جمال عبد الناصر القائمقام مهندس محمود يونس من سلاح المهندسين إلى مكتبه بمبنى رئاسة مجلس الوزراء وأبلغه ـ للمرة الأولى ـ بالنية لإعلان قرار تأميم شركة قناة السويس فى خطابه الذى سيلقيه بالإسكندرية بمناسبة عيد الثورة يوم 26يوليو1956 . وقام عبد الناصر بشرح القضية تفصيلا، وأبلغه بملخص الدراسات التى تمت والإحصائيات والتقديرات والمواقف السياسية والقانونية والدولية التى تعطينا الحق فى تأميم هذه الشركة والتوقعات المبدئية للآثار المنتظرة نتيجة تنفيذ هذا القرار ، وكلفه بمهمة تولى مسئولية تنفيذ ترتيبات الاستيلاء على مكاتب ومنشآت الشركة فى كل من مدن القاهرة والإسماعيلية وبور سعيد والسويس ، والعمل على إدارتها عند إعلان قرار التأميم ، كما طلب منه أن يقوم بوضع تصور لما يراه لتنفيذ المهمة فى سرية تامة حتى لمن سيتقدم بأسمائهم كمعاونين له فى تنفيذ المهمة .

وفى صباح يوم 25يوليو1956 عاد محمود يونس لمقابلة الرئيس جمال عبد الناصر وعرض عليه الخطوط العريضة لخطته ، وأبلغه الرئيس أن كلمة السر هى " دى ليسيبس " ، وأن عليه عند سماعه هذه الكلمة أثناء إلقائه لخطابه بالإسكندرية أن يتحرك فورا لتنفيذ مهمته على جميع المحاور ، وطلب منه أن يخرج من مكتبه ليتوجه إلى مكتب سامى شرف بالدور العلوى حيث سيبلغه كافة التفاصيل وباقى التوقيتات الأخرى .

حضر محمود يونس إلى مكتبى واستعرضنا جميع النقاط التى لديه كما أطلعته على كل ما لدى من وثائق ودراسات واتفقنا على ما يلى :

1- عليه أن يقابل الصاغ عباس رضوان مدير مكتب القائد العام للقوات المسلحة فى كوبرى القبة يوم 25يوليو1956 الساعة الثالثة بعد الظهر أو كما نقول سعت1500 من نفس اليوم ، ليرتبا معا القوات والحملة اللازمة وترتيب وسائل اتصال بديلة وكذا إخطار القيادات العسكرية المعنية لبذل كافة أنواع المساعدات التى يقتضيها تنفيذ الخطة علاوة على تعيين ضباط اتصال ليكونوا تحت تصرفه على مدى الأربع والعشرين ساعة .

2- أبلغت مدير المباحث العامة وأركان حرب وزارة الداخلية فى حضوره بأن يكون مفتشو المباحث العامة فى القاهرة والإسماعيلية وبور سعيد والسويس تحت تصرف محمود يونس أو من ينيبه فى جميع ما يطلبه من مساعدات بشرية أو فنية من الآن ولحين صدور أوامر أخرى وذلك لتفادى أى عمليات تخريب أو إخفاء مستندات أو مقاومة من عناصر الشركة الأجانب .

3- أبلغت المخابرات العامة بنفس التعليمات لتبلغ لمكاتبها فى منطقة قناة السويس كما طلبت منهم التنسيق مع المباحث العامة والقيادة العامة للقوات المسلحة .

وقد إختارالمهندس محمود يونس لمعاونته من الفنيين المهندسين عبدالحميد أبو بكر ومشهور أحمد مشهور ومحمد عزت عادل ، ثم عاد ورشح المهندسين فؤاد الطودى ومحسن إدريس للمشاركة فى معاونته ، وتمت الموافقة على طلباته وترشيحاته .

ومن هذه اللحظة فتحت قناة اتصال مباشرة و مؤمنة ومستمرة بين سكرتارية الرئيس للمعلومات والمهندس محمود يونس ، وظلت هذه القناة مفتوحة لعدة سنوات بعد ذلك .

وفى يوم 26يوليو1956 قبل توجه الرئيس جمال عبد الناصر إلى الإسكندرية لإلقاء خطابه ، اجتمع مع أعضاء مجلس قيادة الثورة فى القطار الخاص الذى أقلهم إلى هناك ، ثم عقد لقاء آخر بعد وصوله للإسكندرية فى استراحة ستانلى مع مجلس الوزراء، وشاركه عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة وأبلغهم بالقرار الذى يعتزم إعلانه بتأميم شركة قناة السويس، وقد وافق الجميع على القرار بالإجماع ، ثم توجه لإلقاء خطابه *، واستعرض فيه موضوعات متعددة، وركز على قصة تمويل السد العالى وربط بين يوجين بلاك مدير البنك الدولى وبين دىليسيبس ، وكان الإسم الأخير ـ كما أوضحت ـ هو الاسم الحركى لعملية التأميم، وقد ردده الرئيس جمال عبد الناصر أكثر من مرة حتى يتأكد محمود يونس تماما من البدء فى إجراءاته ، ثم أعلن فى نهاية خطابه قرار تأميم "الشركة العالمية لقناة السويس البحرية "، وأكد على تعويض حملة الأسهم عما يملكونه من حصص بقيمتها مقدرة بحسب سعر الإقفال السابق عن تاريخ إعلان القرار فى بورصة الأوراق المالية فى باريس ، وأن يتم دفع التعويضات بعد إتمام استلام الدولة لجميع ممتلكات الشركة المؤممة (.

وأحدث القرار دويا هائلا فى العالم ، وتحركت مظاهرات التأييد والمساندة فى مصر والعالم العربى وبعض دول العالم الثالث ، وبدأت الأجهزة والمؤسسات تنسق جهودها بقليل من الحذر بعد كسر حاجز السرية.

تلقى إيدن الخبر أثناء حفل عشاء كان يقيمه لتكريم الملك فيصل الثانى ملك العراق ورئيس وزرائه نورى السعيد ـ فنزل الخبر عليه كالصاعقة ، فبرغم أن كل المخططين البريطانيين كانوا يتحسبون لهذه الخطوة منذ وقت طويل إلا أن رئيس الوزراء البريطانى لم يتصور أن يكون رد فعل الرئيس جمال عبد الناصر على سحب تمويل السد العالى بهذه الجرأة وبهذه السرعة؛ فأنهى العشاء على الفور، ونقل الخبر إلى ضيوفه وتباروا جميعا فى توجيه الأوصاف لجمال عبد الناصر *.

وانتقل إيدن إلى قاعة مجلس الوزراء ومعه بعض وزرائه ، كما استدعى رؤساء أركان حرب القوات البريطانية والسفير الفرنسى والقائم بالأعمال الأمريكى فى لندن وعبر عن الموقف فى البداية بقوله :" لقد وضع المصرى إبهامه على قصبتنا الهوائية . وأخذ يحذر من الإدارة المصرية للقناة، وأنها سترفع رسوم المرور ، وأن أوروبا هى التى سوف تعانى من هذا القرار، وطالب بضرورة التحرك الفورى للاستيلاء على القناة وعدم السماح لناصر بالفوز بغنيمته .

وأوضح مجموعة المستشارين القانونيين والدوليين الذين انضموا للمجموعة وكان يشاركهم الدكتور حامد سلطان والدكتور مصطفى كامل -أستاذ القانون بكلية الحقوق- وسفير مصر فى الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك وآخرين أن قرار التأميم لا يشكل خرقا لاتفاقية القسطنطينية الموقعة سنة 1888 والعبرة بانتظام الحركة فى القناة

وعلى مسرح الأحداث فى مصر كان الرئيس جمال عبد الناصر ـ قبل صدور قرار التأميم ـ قد اجتمع مع على صبرى ثم استدعانى وبعدها استدعى كمال رفعت فكمال الحناوى كل على حدة ، وأعطى كل منا تكليفا واحدا هو القيام بعمل تقدير للموقف حول ما يمكن أن يترتب على قرار التأميم وما هى الاحتمالات المتوقعة ، وطلب أن يقدم كل منا تقديره منفصلا دون التنسيق مع الآخر فيما عدا سامى شرف وكمال الحناوى فقد أعدا تقريرا موحدا باعتبار أن سكرتارية المعلومات والسكرتارية الصحفية يعملان فى مكتب واحد .

كما تشاور جمال عبد الناصر مع كل من السادة عبد اللطيف البغدادى وزكريا محى الدين وعدد محدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة ، لكنه لم يأخذ رأى عبد الحكيم عامر بسبب سابق اعتراضه على مبدأ التأميم ، ولكنه أثار الموضوع أثناء سفره بالقطار إلى الإسكندرية مع أعضاء مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء حيث أبلغ عامر بالقرار وكان رده : " على خيرة الله يا ريس " ، وسكت ولم يعقب بكلمة وإن بدا على وجهه علامات الاستياء .

- تم إعداد أربع تقديرات للموقف وبصور مختلفة ومنفردة:

أعد التقدير الأول الرئيس جمال عبد الناصر ، وكان يقع فى حوالى ست صفحات، وثلاث تقديرات أخرى أعدها كل من على صبرى وكمال رفعت ثم سامى شرف وكمال الحناوى. والتقت التقديرات فى نتائجها واستنتاجاتها باستثناء نقطة واحدة تتعلق باحتمالات التدخل العسكرى ضد مصر وتوقيته حيث :

كان تقدير الرئيس أنه يستنتج أنه إذا لم يقع العدوان بعد التأميم مباشرة فإن احتمالاته ستضعف مع مرور الزمن والوقت وبنى استنتاجه على معلومة تقول أن القوة البريطانية المحمولة جوا ( قوة الانتشار السريع ) موجودة فى أجازة فى بريطانيا خلال شهرى يوليو وأغسطس، ويصعب تعبئتها خلال هذه الفترة ، وأن القواعد البريطانية فى قبرص وعدن غير مهيأة للتحرك قبل مضى شهرين بعد تاريخ التأميم ، وأن هذين الشهرين كافيان لإفشال أى عمل عسكرى لو تم .*

- كانت تقديرات كل من على صبرى وسامى شرف وكمال الحناوى تتوقع العدوان من جانب إسرائيل ، وكنا نستبعد فى تلك الفترة ـ على ضوء المعلومات المتوفرة ـ احتمال التآمر الثلاثى أو اشتراك قوة أجنبية فى العدوان .

- ترك تقدير كمال رفعت الباب مفتوحا بشان احتمالات التدخل العسكرى الأجنبى إلى حين وصول المعلومات التى طلبها الرئيس من قبرص عن حجم القوات البريطانية ودرجةإستعدادها وأوضاعها فى أعقاب قرار التأميم وهو ما نسميه فى العلوم العسكرية ،" order Battle"، وقد بعثنا لأصدقائنا القبارصة برسالة عاجلة ليوافونا بهذا الاحتياج عن طريق أصدقاء مشتركين كانوا معتمدين بين عبد الناصر والأسقف مكاريوس وعلى رأسهم " لاساريدس " .

والثابت أن الرئيس جمال عبد الناصر لم يثبت عند تقدير موقف جامد، فمع توالى الأحداث واستمرار تدفق المعلومات كان نطاق الرؤية يتسع باستمرار ويعاد التقييم والتقدير من وقت لآخر لدرجة انه فى بعض الأحيان كان تقدير الموقف يعدل فى اليوم الواحد مرتين ، لكن قناعة عبد الناصر أن القرار لن يمر بالساهل ولابد أن يولد ردود أفعال قوية من جانب الأطراف صاحبة المصلحة، ويقصد بريطانيا وفرنسا نظرا لتاريخهما الاستعمارى فى المنطقة وتشعب مصالحهما الاقتصادية والسياسية فى قناة السويس ، وعملا على قياس ردود الفعل الدولية بدقة؛ بدأ عبد الناصر يوجه احتياجات عديدة إلى المخابرات الحربية والمخابرات العامة، وإلى السفارات المصرية فى الخارج خاصة فى باريس ولندن وغيرها، والأجهزة الفنية بمتابعة الموقف فى الداخل أيضا .

وبدأ تدفق المعلومات يتزايد وتتضح منه أبعاد الصورة تدريجيا ومن ثم تختلف تقديرات الموقف وتتجه إلى تلمس خطوط أكثر تحديدا ، وعلى سبيل المثال كان التقدير فى أول أغسطس1956 مختلف عن ذلك الذى أعد فى يوم 27يوليو1956 فى قياس أبعاد رد الفعل ووفقا لما أعلن من مواقف .

ففى 27يوليوإكتفت إنجلترا وفرنسا بإعلان إحتجاجهماعلى قرار التأميم ، وفى 28يوليو تم تجميد أرصدة مصر فى بنوك الدولتين مما أعطى مؤشرا لمنحنى التصرف، أما فى 30يوليو فقد شكلت الدولتين قيادة عسكرية مشتركة مما جعل من التحرك العسكرى احتمالا مرجحا ، وكان الرئيس جمال عبد الناصر يتعامل مع هذه التطورات بجدية بالغة ولم يأخذها ببساطة أو بتهوين .

فقد كان بعض السفراء يقدرون أن تشكيل قيادة عسكرية مشتركة يعد فقط استعراض للقوة ، لكن عبد الناصر كان يميل إلى الأخذ بالاحتمال الأسوأ وعدم الاستهانة بهذا الإجراء . . .

فى 30 يوليو أيضا صدر قرار الحكومتين فى إنجلترا وفرنسا بتجميد أرصدة مصر المالية فى بنوكها وفى أول أغسطس أصدرت الدولتان بيانا مشتركا طالب بوضع قناة السويس تحت إشراف دولى ، كما طرح أيضا فكرة عقد مؤتمر فى لندن لبحث القضية فى 16 أغسطس1956 .

وقد عقد المؤتمر بناء على دعوة من الولايات المتحدة الأمريكية بدعوى وضع ترتيبات عملية فى إطار النظام الدولى لضمان استمرار سير العمل فى القناة وفقا لما حددته معاهدة القسطنطينية ، ودعى لهذا المؤتمر 24دولة هم أطراف المعاهدة المذكورة والدول الأكثر استعمالا للقناة ، وقد حضرته 19 دولة فقط ورفضت مصر المشاركة ، وتولى المندوب الهندى كريشنا مينون عرض وجهة نظر مصر بناء على اتفاق سابق بين القاهرة ودلهى ، بينما سافر على صبرى لمتابعة التطورات من خلال سفارتنا فى لندن .

وشهد المؤتمر خلافا حادا منذ بدايته ، فقد كان الهدف الأساسى لبريطانيا وفرنسا هو إجهاض النتائج السياسية لقرار التأميم، وفى سبيل ذلك كان إصرارهما على إنشاء هيئة دولية أو سلطة دولية تعمل على ضمان حرية الملاحة ، أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد تركز اهتمامها على معالجة المشاكل القانونية والفنية المترتبة على قرار التأميم .

وفى 22أغسطس انتهى مؤتمر لندن بالموافقة على إرسال بعثة للقاهرة برئاسة روبرت منزيس رئيس وزراء استراليا وسميت " بعثة منزيس "، وكان الهدف منها هو إقناع جمال عبد الناصر بتسليم قناة السويس إلى شركة جديدة خماسية الإدارة تؤول إليها الحقوق والامتيازات الأساسية للشركة السابقة المؤممة .

وعندما اختار مؤتمر لندن منزيس ليرأس لجنة للتباحث مع مصر كان اختياره مبنيا على كونه ضخم الجثة يتسم بالجرأة والميل إلى التطاول والخروج عن اللياقة فى الحديث وقيل أن إيدن كلفه ( بتهويش ) جمال عبد الناصر .

وبناء على هذه المعلومات طلب الرئيس إبلاغ رسالة إلى السفارة البريطانية فى القاهرة ـ من خلال القنوات الخلفية، وكان يتولى الاتصال بها فى هذه المرحلة محمد حسنين هيكل وصلاح الدسوقى ـ تحذر من أنه إذا تفوه منزيس بكلمة واحدة خارجة أو لجأ لاستعراض عضلاته فسوف يتم طرده على الفور .

ووصل منزيس بالفعل وعندما دخل إلى مكتب الرئيس جمال عبد الناصر وكنا جميعا وقوفا فى مدخل مبنى مجلس الوزراء فى شارع القصر العينى وداخل مكتب الرئيس ، وعندما جلس منزيس بدأ ضاحكا ، ففهم عبد الناصر أن الرسالة قد وصلته حيث المفروض أن يجلس متجهما ويكشر عن أنيابه تنفيذا لوصية إيدن .

بدا منزيس يتحاور مع عبد الناصر فى جوانب لا صلة لها بالمهمة المكلف بها على سبيل التهدئة ، وعندما بدأ يتكلم فى الموضوع طلب معرفة وجهة نظر عبد الناصر لكن الرئيس أبلغه أنه يجب أن يسمعه أولا لكى يعرف النوايا وطبيعة المسائل التى يرغب فى إثارتها ، وبعد أن تركه يتكلم حيث بدأ فى عرض قرارات مؤتمر لندن التى تطالب بالعودة عن قرار التأميم وقبول الإشراف الدولى وألا تنفرد مصر بإدارة قناة السويس ، قاطعه الرئيس قائلا :

" أنت الآن فى أرض مصرية وده مرفق مصرى ، ودى إدارة مصرية ، وستظل مصرية ، ولن نحيد عنها ولن نغير القرار " .

وانتهت مهمة منزيس بهذا الشكل ، وحسبما عرفنا من القناة الخلفية أن منزيس تأثر بشخصية الرئيس جمال عبد الناصر ، ولكنه قال " أنه لا يستطيع أن ينقل انطباعه للحكومة البريطانية " *.

بدأت بعد ذلك عملية الاستقالات من جانب المرشدين الأجانب من شركة قناة السويس وكان البديل جاهزا ، ففى يوم 10سبتمبر1956 تم تعيين 46 مرشدا منهم 28 أجنبيا من جنسيات مختلفة لكن أغلبهم كانوا من اليونانيين والقبارصة واليوغوسلاف والباقى مصريين .

على أثر فشل بعثة منزيس قررت الحكومة البريطانية عرض مشروع على الأمم المتحدة يدعو مصر للتفاوض على أساس مقترحات مؤتمر لندن الأول ، ووافقت فرنسا على مسودة المشروع ، لكن الولايات المتحدة الأمريكية عارضت المشروع وتقرر تأجيل عرضه عل مجلس الأمن .

فى 11سبتمبر 1956 اقترحت الولايات المتحدة الأمريكية الدعوة إلى عقد مؤتمر جديد لبحث نظم وأساليب عمل " ناد " للمنتفعين ، وفى 13سبتمبر 1956 أعلن أنتونى إيدن فى مجلس العموم البريطانى أن الحكومة البريطانية بالاتفاق مع حكومتى الولايات المتحدة وفرنسا قد قررت إنشاء هيئة مؤقتة للمنتفعين بقناة السويس ، وفى اليوم التالى أعلنت الخارجية البريطانية الدعوة لعقد مؤتمر ثان فى لندن اعتبارا من 19سبتمبر1956 لبحث إنشاء الهيئة المقترحة . وردت مصر على هذا الإجراء فى رسالة سلمها السفير أحمد حسين لوزير الخارجية الأمريكى جون فوستر دالاس تؤكد فيها مصر بأن تنفيذ هذه الخطة معناه الحرب . بينما أعلن الاتحاد السوفيتى بأنه سوف يستخدم حق الفيتو ضد أية محاولة تهدف إلى دفع الأمم المتحدة للقيام بعمل ضد مصر .

وعقد المؤتمر الثانى فى لندن فى الفترة من 19ـ 21سبتمبر1956 بحضور 18 دولة، أيدت مقترحات مؤتمر لندن الأول ، واقترح دالاس إنشاء هيئة للمنتفعين بالقناة مع إنشاء إدارة مصغرة بالتعاون مع السلطات المصرية لإدارة القناة ، وطالب بوضع بدائل طويلة الأمد للقناة مثل بناء ناقلات ضخمة ، والمرور عبر رأس الرجاء الصالح ومد خطوط لأنابيب البترول ، واقترح أيضا إنشاء صندوق مؤقت للهيئة يتم تمويله من الرسوم المحصلة لحين التوصل إلى تسوية دائمة ، وقد وافق المؤتمر على المقترحات الأمريكية .

وفشلت هذه الجهود بدورها فى إثناء مصر عن موقفها وبدأت القضية تأخذ مسارا جديدا بإستخدام الأمم المتحدة .

كانت ساحة المعركة كبيرة وشاسعة ووقف أصدقاء مصر بشجاعة إلى جانبها فى كل المحافل الدولية والإقليمية ، ولكن القيادة فى مصر حرصت أيضا على ترتيب المسرح السياسى والعسكرى العربى لتقوية الموقف العربى ، وكما قلت فإن تقدير وقوع العدوان المسلح كان يتزايد من وقت لآخر وفقا لتطور الأحداث .

وعندما صدر بيان إنشاء القيادة العسكرية المشتركة بين بريطانيا وفرنسا فى الأول من أغسطس1956 جرت اتصالات بين مصر وسوريا لبلورة تنسيق عسكرى ـ وكانت الأخبار قد بدأت تتوارد عن نشاط إسرائيل فى فرنسا ـ وقد خلصت هذه الاتصالات إلى توقيع اتفاقية للدفاع المشترك بين البلدين ـ مصر وسوريا ـ وإنشاء قيادة عسكرية موحدة ، وكان السوريون يطالبون فى البداية بتعيين قائد سورى على رأس هذه القيادة ، ولكن بعد مناقشات وباعتبار أن مسرح العمليات الأساسى سيكون فى الأراضى المصرية قبلوا بتعيين قائد مصرى يكون قادرا على فرض نظام للتحكم والسيطرة على مسرح العمليات .

وكان النظام فى سوريا برئاسة الرئيس شكرى القوتلى يقوم على مشاركة جميع الأحزاب ، ففيها الشيوعى وممثلى الإقطاع والرأسماليين والموالين للسعودية أو لحلف بغداد ، وكل منهم يسعى لتحقيق أكبر قدر من المكاسب لنفسه ولحزبه ، وكانت قيادة الأركان العسكرية السورية تضم فى أغلبها عناصر قومية ويرأس المكتب الثانى ( المخابرات ) عبد الحميد السراج، وكان من أكثر العناصر وطنية وإخلاصا للعروبة إلى جانب مجموعة من العناصر المشهود لها بالكفاءة والوطنية منهم أكرم ديرى مدير العمليات وطعمة العودةالله قائد الجبهة الجنوبية وجاسم علوان وجادو عزالدين الذى كان مسئولا عن الجولان وأحمد حنيدى وآخرين .

فى16من شهر يوليو1956 وكان يوافق الثامن من ذى الحجة1375 كنت عضوا فى وفد برياسة عبد الحكيم عامر لزيارة المملكة العربية السعودية، وتم الاجتماع بكل من الملك سعود والأمير فيصل بن عبد العزيز ـ الملك فيما بعد ـ والأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران ، وكان محور الحديث هو احتمالات تعرض مصر للعدوان، وطلب موافقة المملكة العربية السعودية على انتشار الطيران المصرى والهبوط فى الأراضى السعودية إذا ما وقع العدوان ، وقد وافق الجانب السعودى، وعرض تقديم نفس التسهيلات للقوات البحرية أيضا مع تأكيد استعدادهم لتلبية أية احتياجات أخرى تطلبها مصر ، وأذكر أن الأمير سلطان كان من اكثر المتحمسين لدعم الموقف المصرى دون أية تحفظات، وترك بحث التفاصيل الفنية للخبراء العسكريين المرافقين وبعد انتهاء المباحثات دعانا الأمير فيصل بن عبد العزيز لتناول طعام العشاء فى قصره بوسط المدينة فى جدة ، وكان اللقاء وديا وأخويا للغاية . وقد قمنا بأداء العمرة فى تلك الليلة وتمنيت أن أبقى لأداء فريضة الحج التى كانت قد بدأت شعائرها فى ذلك اليوم ، إلا أن التطورات حتمت ضرورة عودتنا فى فجر ذلك اليوم إلى القاهرة لتنفيذ ما أتفق عليه فى جدة، ولإبلاغ الرئيس جمال عبد الناصر بتفاصيل المباحثات التى تمت مع الجانب السعودى .

فى نفس الوقت حرصت مصر على تأكيد حسن نواياها واستعدادها للتوصل إلى تسوية سلمية للنزاع ، لكن الأطراف الأخرى كانت تعمل على تصعيد الموقف باستمرار . ففى25سبتمبر1956 قدم مندوب مصر الدائم فى الأمم المتحدة رسالة إلى مجلس الأمن يطلب فيها عقد اجتماع لبحث الأعمال التى تدبرها ضد مصر قوى دولية وخاصة بريطانيا وفرنسا ، وتقدمت الدولتان من جانبهما يوم 30سبتمبر1956 بمشروع قرار لمجلس الأمن حول الأزمة ، واعترض الاتحاد السوفيتى ودول عدم الانحياز ، وبعد مناقشات عسيرة فى الفترة من 5أكتوبر وحتى 13 منه تم إصدار قرار من ستة نقاط يطالب بحرية الملاحة فى قناة السويس واحترام السيادة المصرية وعزل القناة عن سياسة أى دولة ـ والنص على أسلوب تحديد الرسوم وتخصيص نصيب عادل لتطوير القناة واللجوء للتحكيم فى المنازعات التى تنشأ فى المستقبل .

وتقدم الرئيس جمال عبد الناصر بخطوة أخرى للأمام استهدفت اختبار المواقف وتفادى الضغوط الدولية على الصعيدين الإقتصادى والسياسى ، فاتصل بالدكتور محمود فوزى أثناء تواجده فى نيويورك وأبلغه بقبول تشكيل مجموعة استشارية دولية ـ وهو الاقتراح الذى عرضته الهند ـ لتعمل بالتشاور مع الهيئة المصرية المؤممة .

والملحق الوثائقى يتضمن وثيقة بخط يد الرئيس جمال عبد الناصر تشمل ملاحظات وتوجيهات للدكتور محمود فوزى وزير الخارجية حول المشروع الهندى وكيفية إدارة الأزمة فى الأمم المتحدة نصها :

" مجلس قيادة الثورة مكتب الرئيس

كنتيجة للمؤتمر ـ تقوية لموقف مصر تصر على سيادتها الحجج بالنسبة للتأميم :

عدم إمكان إدارة القنال بدون شركة القنال هذه الحجج هزمت.

لجنة الخمسة معناها إهمال اقتراح الهند.

من الضرورى إعلان موقف مصر بالنسبة للمسائل الرئيسية لمشكلة القنال .

من ناحية يجب أن يقال تأكيد أن مصر تدافع عن سياسة مصر إلى النهاية .

حقوق مصر فى قنال السويس .

حق مصر فى مباشرة إدارة القنال .

هذا ضرورى حتى لا يشك أى إنسان أن مصر ستكون مصرة على إدارة القنال إدارة مصرية . يجب اعتبار أنه من الضرورى بطريقة الإقناع تأكيد أن مصر تصمم على مبادئ حرية الملاحة فى القنال ومصالح المستعملين الأجانب للقنال ومستعدة لمقابلة الاقتراحات التى تهدف إلى إقامة تعاون دولى .

Ready to accept the proposals which have aim for such form of international cop which will guarantee the freedom of navigation on the canal for the ships of all nations, it would help to quiet those circles in different

دول المهتمة بتأمين حرية الملاحة وفى نفس الوقت فإنها تخيف الذين لا يريدون إقامة صراع حقيقى بالنسبة لقنال السويس يمكن أيضا أخذ اقتراح الهند فى الاعتبار ، والاقتراحات الأخرى التى يمكن أن تقبلها مصر فى مؤتمر لندن .

فى نفس الوقت يمكن إظهار على أى أسس وكيف تسير مصر القنال خاصة لاعتبار إمكان الآتى :

موقف مصر بالنسبة لحرية الملاحة نستخدم النقط الرئيسية 1888 إعادة تأكيدات مصر فى 5أغسطس.

بيان موافقة مصر على إقامة هيئة استشارية مكونة من ممثلى الدول المهتمة بالملاحة موافقة مصر على إقامة.

Definite forms or inter cop in regard of changing the rate tech assistance to forces some form of comn.of Egypt, cop with the UN In order to define phase who are for inter of canal from these arguments

إن مصر مستعدة لاستخدام القنال كسلاح سياسى كعمل مضاد لهذا القول يمكن إعلان المبادئ الأساسية لإدارة القنال من جهة مصر لهذا فإن الحكومة المصرية أقامت هيئة القنال التى لن يكون لها أى عمل سياسى فى نفس الوقت يكون صحيحا إذا قامت حملة كبيرة فى الدول الغربية وآسيا من أجل القرار الهندى .

مصر تستخدم نفوذها فى إندونيسيا وسيلان وبورما والدول العربية فى الشرق الأوسط من أجل أن تؤيد الدول المشروع الهندى ، وفى نفس الوقت يمكن وصف الشركة كمستقلة قانونيا هيئة اعتبارية.

هذه الهيئة ستحافظ على عمل القنال على أساس احترام شديد لمبادئ حرية الملاحة .. المساواة الكاملة لسفن جميع العالم بدون أى تمييز .

روسيا ليس عندها شك .. إذا كانت مصر تتقبل مع الدول الشيوعية ستؤيد المشروع الهندى.

يلاحظ فى ذلك أن التكتيك يكون أحسن إذا كانت الدول العربية والآسيوية أولا كل هذا سينزع السلاح من أيدى الإنجليز والفرنسيين والأمريكان . خصوصا ما يقولونه أن من جانبهم 18 دولة وعلى الجانب الآخر 4 وسيكون لمصر تأييد عام " ( انتهى نص الجزء المتاح من هذه الوثيقة )

وجاء فى وثيقة أخرى ما نصه :

" الرئيس

ـ نشر تحريض الشركة للمرشدين والتعقيب عليه. ـ تفنيد مشروع دالاس فى الصحف. ـ مهاجمة الإجراءات التعسفية التى اتخذتها إنجلترا بتجميد الأرصدة الموجودة فى لندن لا تتمشى مع تصرفات بنك مركزى وله الثقة المالية فى الدعوة إلى تكوين المدفوعات بين الدول الإفريقية الآسيوية ". ( انتهى نص الوثيقة )

وفى 15أكتوبر1956 وجه الدكتور محمود فوزى رسالة إلى رئيس مجلس الأمن يعلن فيها قبول الحكومة المصرية لاتخاذ المبادئ الستة التى تضمنها قرار المجلس فى 13أكتوبر أساسا للتفاوض حول القناة ، كما أبلغ السكرتير العام للأمم المتحدة فى 20أكتوبر إستعداد مصر لبحث إنشاء هيئة دولية للإشراف على القناة . وتم إبلاغ هذه المقترحات لوزيرى خارجية فرنسا وبريطانيا خلال اجتماعهما مع داج همرشولد والذى حضره أيضا وزير الخارجية محمود فوزى ، ورغم توصل الاجتماع إلى عقد لقاء ثان يوم 29أكتوبر1956 لبحث التفصيلات إلا أن وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا عادا من جديد ليؤكدا إصرارهما فى مناقشات مجلس الأمن على عرض مطالب لا يمكن لمصر قبولها .

وقد وضح أن العملية كلها تسير فى طريق التسويف وكسب الوقت ، فقد كانت كل المؤشرات تؤكد أن العدوان المسلح أصبح وشيكا ، وأن الجهود السياسية لا تعدو أن تكون مناورات ومحاولات للخداع والتمويه .

..............."

إنتهى نقل هذا الجزء

يحى الشاعر

- يتبع -

Graphic by Martin
Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf

You are my today's

Web guest

Thank you for your visit






© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.

This web site is maintained by

ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, USA, UK

Specialized in multilingual "Arabic, English, German and French" Project Management, applications, , design, implementation, consulting,coaching and training.